انها الراهبة الكرملية الشابة التي تمكنت في وقت قصير من البلوغ الى ذرى القداسة، لأنها اعتمدت في ذلك على قوة الله التي استقتها من ايمانها وثقتها الكلية بمحبته الأبوية اللامتناهية. فهي سارت في درب القداسة واقتفت آثار امها الكبيرة القديسة تريزة الأفيلية واستلهمت تعاليم ابيها الروحي القديس يوحنا الصليبي حتى صارت قديسة مثلهما. فهؤلاء الثلاثة ليسوا قديسين كبارا في نظر رهبنتهم فحسب، بل هم عمالقة الروح والتصوف في نظر الكنيسة كلها. اما تريزة الصغيرة، فقد جسدت حياة التصوف في صيغة بسيطة، وجعلتها في متناول النفوس الصغيرة التي تعجز عن اتباع الطرق الروحية المعقدة. انها القديسة التي عرفت ان تبتسم دوما، بالرغم مما تخفيه هذه الابتسامة من الصلبان والصعوبات. وعرفت ان تكون سعيدة حتى في وسط الظلمات الدامسة التي اجتازتها. ذلك لأنها استسلمت بكليتها الى الله ابيها وهي راضية بكل ما يريده لها، لأن كل ما يريده يؤول الى خيرها، حسب خطة المحبة التي رسمها لها هذا الاب الكلي الحنان والرحمة.
طفولتها
في رواية حياة تريز الطفل يسوع نعتمد خصوصا ما كتبته هي نفسها في كتابها "تاريخ نفس"، وهي قصة حياتها وضعتها نزولاً عند رغبة رئيساتها وأنهت فصولها الاخيرة قبيل موتها.ولدت تريزة في 2 كانون الثاني سنة 1873 في بلدة "النسون" الفرنسية، في حضن عائلة ضمت العديد من البنات والبنين. وكانت هي الاخيرة بين الجميع، وقد رجا والدها لويس ووالدتها زيلي غيران ان يرزقهما الله بصبي. الا انهما تقبلا عطية الله بامتنان ومحبة. كان الوالد يصلح الساعات ويتاجر بها. اما الوالدة فكانت بارعة في الاعمال اليدوية، لا سيما بصنع "الدنتيلة". فكانت العائلة تعيش في رخاء مادي ويسودها جو من التفاهم والمحبة العميقة. ولم يعش للعائلة سوى خمس بنات، اما الآخرون فقد رحلوا الى الابدية في سنهم المبكرة. وعكف الوالدان على تربية بناتهما تربية مسيحية اصيلة. اضفت تريزة الصغيرة طابعاً لطيفا على الجوّ العائلي بحضورها وجمالها، وكانت موضع فرح والديها وأخواتها الاربع اللواتي كن يتهافتن عليها كلما استيقظت من نومها. الا ان صحة الصغيرة الواهية اصبحت مصدر هموم للعائلة. فاستنجدت والدتها بفلاحة لكي تحتضنها وترضعها وتهتم بها، الى ان تحسنت صحتها واشتد جسمها الصغير، واخذت صيحاتها وضحكاتها ترن في ارجاء المنزل والحديقة. وكانت الطفلة رقيقة حلوة بجدائل شعرها الاصفر الجميل، وهي لا تفتأ تغرد كالعصفور طيلة النهار وتسعد اهل الدار كلهم بتصرفاتها وكلماتها. واذا كان الوالد يحب بناته الاربع الكبيرات وهن: ماري وبولين وسيلين وليوني، فإنه كان يخص الصغيرة تريزة بمحبة اعمق ويدعوها "ملكته الصغيرة". نشأت تريزة في جو عائلي متدين الى الغاية، وتعرفت الى المسيح في سن مبكرة وأحبته من كل قلبها. ولم تكن السنون الا لتزيدها تعلقا وهياما به.
باكورة الآلام
كانت زيلي والدة تريزة تشعر منذ عدة اعوام بمرض خبيث في صدرها، وقد اشتدت وطأته عليها وهي تتحمل الآلام بصبر وشجاعة، الى ان انهارت صحتها وتمكن منها السرطان، فقضى عليها في 28 آب سنة 1877. وكان اول احتكاك تريزة بالألم حينما قبلت جبهة والدتها الباردة التي لن تجيبها مذ ذاك بحنانها وعطفها الوالدي...سبّب هذا الموت صدمة لنفس تريزة الرقيقة، وفارقها مرحها وزالت سعادتها وأصبحت سريعة التأثر لأتفه الاسباب. واضطر الاب الى ترك منزله ونقل العائلة كلها الى بلدة "ليزيو" ليضع بناته في رعاية خالهن وزوجته وبناته، ولكي يزيل عنهن جو الكآبة المهيمن على المنزل في "النسون". وقد شق الامر على الوالد المسكين الذي كان قد الف النسون ومنزله وأصدقاءه فيها. ومع ذلك فقد فضل سعادة بناته وخصّص حياته لله ولتربيتهن، وكف عن كل عمل آخر. وفي ليزيو ، سكنت العائلة في بيت اطلقوا عليه اسم "بويسونيه" وهو اشبه بفيلا رائعة المنظر تحيط بها الادغال والاشجار.قامت البنت الكبيرة ماري بإدارة المنزل، بينما اهتمت بولين بتريزة الصغيرة المحرومة عطف الأم وأصبحت لها بمثابة تلك الام تقود خطاها في طريق الفضيلة وتعلمها القراءة والكتابة. اما والدها فكان كثيراً ما يأخذها معه الى النزهة، فيزوران في طريقهما الكنيسة، ثم يعودان معا الى البيت، فينصرف الوالد الى قراءاته التقوية. بينما تتلهى تريزة باللعب في الحديقة. اما في المساء، فكانت العائلة تجتمع كلها في غرفة الاستقبال حول مصباح كبير وينصرف كل منهم الى هوايته وأشغاله. وتريزة لا تفارق حضن والدها الحنون. ثم يختمون النهار بصلاة جماعية يرفعونها الى الله شاكرين له أفضاله ونعمه، وبعد ذلك يأوي كل منهم الى فراشه. وكانت تريزة تهوى الثلج وغروب الشمس بألوانها الجميلة، وجمال الزهور وتألق النجوم. وقد تبيّنت يوما في احدى مجموعات النجوم الحرف الأول من إسمها (T). وحينما رأت البحر لأول مرة سنة 1878، أثر فيها منظره وذكّرها بعظمة الله اللامتناهية وبقدرته الفائقة، وقالت بعد ذلك: "... وعندما مالت شمس ذلك اليوم الى المغيب وراء المحيط الجبار، جلست مع بولين على صخرة منفردة فشبهتْ لي اختي تلك الخيوط الذهبية بنور النعمة الذي يضيء القلوب المحبة لله. فتخيلت قلبي كقارب صغير يمخر بشراعه الابيض على هدى ذلك الضوء السماوي، وقررت الا ابتعد عن انظار يسوع حتى اصل الى سر الخلاص". وكم كان سرورها عميقا باشتراكها في الاحتفالات الدينية وبزياح القربان ونثر الورود نحو الشعاع.
مرضها
حين بلغت تريزة الثامنة من سنيها، قرر والدها ان يضعها في مدرسة للراهبات لكي تتلقى العلوم والتربية الدينية. الا ان المسافة بين المنزل ودير الراهبات البندكتيات كانت طويلة لمثل هذه الطفلة الصغيرة. ومع ذلك فقد ترددت مع اخواتها على المدرسة منذ تشرين الاول سنة 1881. وما كان اعظم الفرق بين ما ألفته تريزة في المنزل الوالدي وبين ما تعيشه الآن في هذه المدرسة ذات الطابع الصارم. وكان لهذا التغيير وقع قاس في نفس تريزة، بما فيه من القوانين والطباع والطعام المختلف. وبالنظر الى الفتها للمدرسة بميلها الى الدرس والمطالعة، فقد حققت تقدما سريعا وتجلت عندها مواهب الشعر والرسم وتفوقت على زميلاتها في ميادين كثيرة. الا ان نجاحها في الالعاب كان اقل شأنا منه في الدرس. وهذا ما خلق فيها جوا من الإنطواء على الذات وعدم مشاركة زميلاتها في اللعب. وكانت كثيراً ما تتلهى في اوقات الفرص بالتحدث الى بعض زميلاتها او بالإنزواء في معبد المدرسة للعكوف على الصلاة والتأمل. في 2 تشرين الأول سنة 1882، دخلت اختها بولين دير الكرمليات في ليزيو. وقد شق على تريزة الصغيرة ان تفارق "امها" بولين. وكم تمنت ان ترافقها الى الدير، ولكن صغر سنها لم يُمكّنها من ذلك. فباتت تتألم صامتة، واعتراها صداع اليم لازمها مدة طويلة، وأخذت صحتها تزداد سوءا، حتى اضطرت الى ملازمة الفراش . ولنترك هنا لها الحديث لتروي لنا ما جرى لها في هذا المرض. فقد كتبت: "اذ رأيتُني محرومة من كل الوسائل البشرية ومشرفة على الموت ألماً، وجهت نظري الى امي السماوية. وسألتها من كل قلبي ان ترأف بي. فتحرك تمثالها فجأة، وأشرقت العذراء مريم جمالا، وتلألأت بهاءً أعجز عن وصفهما، وكان محياها يتدفق دعة ولطفاً وحنانا لا يوصف. على ان ما نفذ إلى أعماق نفسي، هي ابتسامتها الفتانة. ومنذ ذلك الحين اضمحلت آلامي. فانحدرت من عيني دمعتان كبيرتان، سالتا هادئتين...اجل، ان هما الا دمعتا فرح سماوي خالص. ان العذراء المجيدة اقتربت منى وابتسمت لي...فقلت في نفسي: ما اسعدني . ولكني لا ابوح بذلك، لئلا تزول سعادتي. ثم، بدون اقل عناء، خفضت عينيّ فعرفت عزيزتي ماري، وهي تنظر إليّ بحب، وعليها ملامح التأثر الشديد كأنها في ريب من نيلي منذ برهة هذه النعمة العظيمة".
المناولة الأولى
كانت المناولة الاولى، وما زالت، مسبوقة باستعدادات كبيرة ومحاطة بعناية خاصة يبذلها المربون لتهيئة الصغار للقاء مع يسوع للمرة الاولى. وقد استعدت تريزة لهذا الحدث العظيم وساعدتها اختها ماري على ذلك. فتبعت دروس التعليم المسيحي في الدير بتعطش شديد. وأفادت من كل ما القي على الطالبات من الارشادات الروحية، واجتازت الامتحان بتفوق ، حتى قال عنها المرشد: "اني حاولت ان اربك تريزة في اجوبتها فلم استطع". وكان يلقبها "دكتورته الصغيرة في اللاهوت". وجاء يوم المناولة الاولى، واقتبلت تريزة يسوع لأول مرة. انها تظهر عجزها عن التعبير عن عذوبة هذا اللقاء اذ تقول: "ان من هذه الأشياء ما يفقد رائحته العطرة حالما يتعرض للهواء... ومن الأفكار الباطنية ما لا يمكن التعبير عنه باللغة الأرضية بدون ان يفقد حالا معناه السماوي الرفيع...آه، ما اطيب قبلة يسوع الأولى على نفسي. نعم هي قبلة حب. شعرت اني موضوع حب، فقلت: اني أحبك وأهبك نفسي الى الأبد. لم يطلب يسوع الي شيئا، ولم يفرض اية تضحية. منذ زمن طويل يتبادل هو وتريزة الصغيرة النظرات ويتفاهمان:::اما في ذلك اليوم، فلا يليق ان تسمى نظرة بسيطة، بل اتحادا. فلسنا اثنين: لقد توارت تريزة كما تتوارى قطرة ماء تذوب في قلب المحيط. ولم يبق الا يسوع. فهو السيد والملك. الم تطلب اليه تريزة ان ينزع عنها حريتها، هذه الحرية التي كانت تخيفها. فقد شعرت انها ضعيفة، سريعة العطب، فأرادت ان تتحد بالقوة الالهية الى الأبد...وبغتة فرحت فرحا كبيرا وعميقا لا تستطيع ان تستوعبه، ولم تلبث ان ذرفت دموع الغبطة...".وكان ذلك في 8 ايار سنة 1884. وفي هذا اليوم ذاته ابرزت اختها بولين نذورها الرهبانية. وقد زارتها تريزة في دير الكرمليات عصر ذلك النهار السعيد وأفعم ذلك قلبها الصغير فرحا وغبطة وشوقا الى الالتحاق بها.
الدعوة المبكرة
حينما بلغت تريزة الثالثة عشرة من سنيها، تركت مدرسة الراهبات وأخذت تتلقى دروسا خاصة على سيدة محترمة. وهناك اختبرت العيش في المجتمعات الراقية، وأخذت ايضا تتردد على منزل خالها وتتعرف الى الشخصيات التي تزور المنزل. وفي تلك الغضون لحقت أختها ماري ايضا ببولين الى الكرمل. وقد جلب لها عيد ميلاد سنة 1886، مع الهدايا التقليدية، هدية اخرى انفس وهي ان تريزة استردت قوة روحها المعنوية التي فقدتها يوم وفاة والدتها، وتخلت عن كل ما يتعلق بالطفولة من الامور التافهة، وهي تقول: "لقد سعدت بعدئذ ودخلت المحبة الحقيقية الى قلبي، فقررت ان انسى نفسي الى الأبد". وشرعت تتفتح على الآخرين لكي ترى احتياجاتهم وتحسن اليهم. وكانت فكرة الدخول الى الكرمل قد نمت في قلبها وأخذت تشتد رغبتها يوما بعد يوم. واذا بها تفاجىء يوما والدها بهذه الرغبة. وكانت تلك ضربة اليمة على قلب الوالد المسكين. ولكنه مسيحي صادق، ولا يريد ان يعيق عمل الله في ابنته المحبوبة. انما حدثها بلطف واستمع اليها بهدوء وهي تعرض امامه تاريخ دعوتها وكيف انها نشأت منذ دخول بولين الى الرهبنة. واذ بهذا الشيخ الجليل يحني رأسه راضيا بهذه التضحية التي يطلبها الرب منه. ولكن موقف الاقارب كان مختلفا جدا. قد قال خالها: "لعل هذه اول مرة في تاريخ فرنسا تدخل فيها فتاة ذات خمسة عشر عاما الى دير الكرمل. اني سأقاوم هذه المهزلة بكل ما لي من القوة ولا بد من اعجوبة حتى ارجع عن تصميمي هذا". وبعد ايام كانت صلاة تريزة قد غيرت موقف خالها، فوافق على رغبتها. الا ان الصعوبات لم تزل من طريق تريزة. وجاءها الرفض البات من قبل الرئيس الكنسي للدير. ودارت مداولات بينه وبين المطران. والتقت تريزة بالمطران في بلدة "بايو" فنصحها بالبقاء مع والدها مدة اخرى.وبعد ذلك أتيح لتريزة ان تسافر الى روما مع والدها وحجاج فرنسيين آخرين. وادهشها جمال المدينة والآثار المسيحية فيها. وحينما حظي الحجاج بمقابلة البابا لاون الثالث عشر، انتهزت تريزة هذه الفرصة لكي تطلب منه ان يسمح لها الانتماء الى الرهبنة الكرملية في سنها الخامسة عشرة، متحدية بذلك جميع البروتوكولات المرعية في مقابلة البابوات. فقال لها البابا: "افعلي يا ابنتي ما يقرره الرؤساء". وعند إلحاحها في الطلب ثانية، قال لها: "انك ستدخلين ان شاء الله". وأصيبت تريزة هنا ايضا بخيبة الامل، وكانت تنتظر كلمة من رئيس الكنيسة لتزيل عن طريقها كل العقبات. وأصبحت الرحلة الباقية تافهة في نظرها. وعادت الى ليزيو في 2 ايلول، وأخذت تنتظر بفارغ الصبر جواب مطرانها على طلبها. وطال انتظارها. وكانت تشتاق ان تكون في الدير في عيد الميلاد. ولكن الميلاد جاء وعبر. وفاجأها العام الجديد بجواب الام ماري غنزاغا رئيسة دير الكرمل وهي تخبرها بأن المطران كتب اليها يقول انه بعد فحص الموضوع من كل نواحيه، فهو يسمح لتريزة بالدخول حالا الى دير الكرمل. وأضافت الأم غنزاغا انها ترتئي ان تدخل تريزة الدير بعد الصوم الكبير، بالنظر الى صعوبة هذه الفترة لشابة مثلها. وقد تقبلت تريزة هذا القرار بارتياح وشكرت لله هذه النعمة الكبيرة. وأخذت منذئذ تستعد بهدوء وسلام للحياة التي اختارتها تجاوباً مع ارادة الله. وبعد ان عبر عيد القيامة، جاء اليوم الأخير الذي تقضيه بين ذويها. فأقيمت مأدبة فخمة على شرفها ووداعها، اجتمع حولها الاهل والاقارب. وكانت هذه الحفلة هي الوداعية للعالم ومباهجه.
في دير الكرمل
دخلت تريزة دير الكرمل في صبيحة التاسع من نيسان سنة 1888. وهي ترتدي ثوبا من الصوف الازرق. وركعت عند باب الدير امام والدها ليباركها وقبلت اختيها ليوني وسيلين وخالها وعائلته. ثم انفتح امامها باب الدير وتوارت وراءه...وكانت هناك بانتظارها اختاها: ماري للقلب الأقدس وبولين (انييس ليسوع) مع الام الرئيسة وسائر افراد الجماعة الرهبانية. فغمر السلام والفرح قلب تريزة. اذ شعرت بأنها بلغت امانيها ومحطة آمالها في تلك العائلة الجديدة. كان كل شيء يبدو في الدير جميلا في نظرها. فقد أحبت صومعتها الصغيرة الفقيرة التي لا اثاث فيها سوى فراش من القش واناء للماء ومقعد خشبي ومصباح وسلة خياطة وساعة رملية. ان فرحها لن يستطيع احد ان ينزعه منها، مهما كانت الظروف ومهما اختلفت الأطباع.وكانت الآلام على موعد مع تريزة. فما ان مرت الايام الاولى ، حتى تراكمت الصعوبات على المبتدئة الجديدة: مصاعب من الرئيسة التي تعاملها بقساوة وخشونة ولا تدع فرصة دون ان توجه اليها بعض التوبيخات. ومتاعب من رئيسة الابتداء التي كانت منشغلة عنها ولم تفهمها على حقيقتها. وطالما نسيت ما كانت تحتاج اليه صحة تريزة من الاعتناء. صعوبات من نائبة رئيستها التي كانت تزعجها بأحاديثها الطويلة المملة ولا تدع لها المجال للصمت الداخلي ومناجاة الله في اعماق النفس. ناهيك بالحسد الذي دب في قلوب بعضهن اذ رأين هذه الفتاة الصغيرة الجميلة رصينة في سعيها الى القداسة وفي المحافظة على القوانين بدقة وبساطة...ولكن تريزة كانت تقابل الجميع ببشاشتها العذبة وبسخائها الدائم في تأدية الواجبات وفي خدمة اخواتها. انها لم تجد تعزية روحية حتى عند مرشد الجمعية نفسه. وعندما عرضت رغبتها في القداسة لأحد واعظي الرياضة السنوية وقالت له: "ابت، اني اريد ان اصبح قديسة وان احب الله تعالى كما احبته القديسة تريزة الأفيلية"، اجابها الكاهن: "يا لك من متعجرفة. ابدأي بإصلاح نقائصك وتجنبي الخطيئة وحاولي ان تتقدمي قليلاً كل يوم. واياك والتهور". فقالت له تريزة: "لكني لست متهورة يا ابت، الم يعلمنا الرب في انجيله الطاهر ان نكون كاملين اسوة بأبينا السماوي؟".اما قراءاتها فكانت تنحصر في التأمل في الانجيل الذي كانت تحمله دوما معها، ومطالعة كتابات القديسة تريزة الافيلية وتآليف القديس يوحنا الصليبي، وهي تحاول التشبع من روحهما. كما انها كانت تميل الى قراءة "الاقتداء بالمسيح". الا انها كانت تفضل على كل شيء قراءة الكتاب المقدس، وهي تقول: "عندما اطالع كتابا في السعي الى الكمال وأرى فيه ما يصادف المؤمن من آلاف الصعوبات. سرعان ما يستحوذ التعب على ذهني الضعيف، فأبادر الى ترك الكتاب الفلسفي جانبا والعودة الى الكتاب المقدس، واذ ذاك تشع الاضواء امام بصيرتي. وقد تفتح كلمة واحدة امام ناظريّ آفاقا غير محدودة، ثم يبدو لي الكمال في متناول يدي متى اقررت بضعفي وارتميت كطفل بين ذراعي الله".
الراهبة
طالت فترة الابتداء، وتريزة صابرة على ذلك وعاكفة على تكميل واجباتها بأمانة، بالرغم مما تتعرض له من الصعوبات في الشغل والطعام واللباس، وبالرغم مما يحز في قلبها من الاخبار التي تردها بشأن صحة والدها المتدهورة. فكانت تقوم بالأعمال التي تأباها الاخوات الاخريات. كالغسل بالماء الساخن صيفا والشطف بالماء البارد شتاء. وكم احتملت من لا مبالاة اخواتها وعدم تفهمهن لطبيعتها الرقيقة وتربيتها اللطيفة. وتعلمت ان تقبل بهدوء الملاحظات التي توجَّه اليها عن اخطاء لم ترتكبها، واعتادت ان تتحمل الخيبة والتقريع الاليم والاكتفاء بما يعطى لها من القليل الضروري... وهكذا هيأت نفسها ليوم النذور الاولى الذي كان في 8 ايلول سنة 1890.مارست تريزة في الدير اعمالا كثيرة ومختلفة . فهي تارة مسؤولة عن تحضير اللوازم للقداس في السكرستيّا، وكان هذا العمل عذبا جدا على قلبها. هي طورا خادمة للأخوات المريضات حينما ألمَّ بالدير وباء الانفلونذا وأودى بحياة بعضهن. وحيناً تعطي المجال لاظهار موهبتها في الرسم، وآخر موهبتها في نظم الشعر. وفي جميع هذه المجالات اظهرت هذه الراهبة الشابة جدارتها وانتزعت من الجميع الاعجاب والتقدير. وفي وسط كل هذا النجاح، عرفت تريزة ان تبقى بسيطة وتلقائية. وان تكون فوق كل مديح او ذم. دون ان تتأثر بهما البتة.
مع المبتدئات
في شهر شباط سنة 1893، انتُخبت بولين (الأم انييس) رئيسة للدير وهي بدورها عينت الرئيسة السابقة، الام ماري غنزاغا، مسؤولة عن المبتدئات، مع تريزة كمعاونة لها، وهي ما تزال في ربيعها العشرين. فبذلت تريزة نفسها بسخاء في خدمة المبتدئات، وعلمتهن الالتزام بالقوانين، وأصبحت في الواقع هي المسؤولة عن المبتدئات ورئيستهن الفعلية. وكانت تقول لمبتدئاتها: "اني احب القلوب المرحة". وعرفت كيف تحبهن وكيف توبخهن، وتكون في كل ذلك في منتهى العدالة وطبيعية في كل تصرفاتها. وبهذا علمتهن الابتعاد عن التصنع والرياء والازدواجية. انها كانت تفكر في تلك النفوس التي تكفلت بها، وكان شعورها بالمسؤولية كبيرا وراسخا في قلبها. وطالما صلت الى الله وقالت: "ها انك ترى يا رب كم اني صغيرة وعاجزة عن تغذية بناتك. فأعطِ كُلاً منهن ما يوافقها. املأ يدي الصغيرة، فأوزع من كنوزك على من تطلبها، دون ان اترك ذراعك او ان احوّل نظري عنك".
.
النزاع والموت
اشتدت عليها الآلام شيئا فشيئا. وبلغ منها الضعف حتى انها لم تعد تستطيع ان تأتي بأية حركة بدون مساعدة. كل شيء يؤلمها، حتى الحديث الخافت الذي تسمعه. ومع ان الحمى باتت لا تفارقها، فالابتسامة كانت لا تفارق ثغرها. وفي احدى الليالي، زارتها الاخت الممرضة، فألفتها ضامة يديها ورافعة عينيها نحو السماء، وقالت لها تريزة: "نعم يبدو لي اني لم ابحث قط الا عن الحقيقة ...نعم فهمت اتضاع القلب". وجاء يوم 30 ايلول سنة 1897، وهو اليوم الأخير لمنفاها على هذه الأرض. وبلغت فيه آلامها اقصى ذروتها. وبدت عليها اعراض النزاع في نحو الساعة الرابعة مساء، وأخذ العرق يتصبب من جبينها، وهي تضم المصلوب بيديها الضعيفتين لكي تخوض المعركة الحاسمة. وحينما رن جرس الدير معلنا صلاة التبشير، حدقت تريزة بصورة العذراء تحديقا يتعذر الاعراب عنه، وكأني بها تستعيد في ذاكرتها ما كتبته يوما:انتِ التي ابتسمتِ لي في فجر الحياة،ابتسمي لي مرة اخرى، يا أماه، فقد أقبلَ المساء...وبعد الساعة السابعة، التفتت الى الام الرئيسة وقالت: "اليس هذا هو النزاع، يا أمي؟ الا يأتي الموت بعد قليل؟" فأجابتها الرئيسة: "نعم يا ابنتي، هذا هو النزاع، على ان يسوع يريد، على ما يبدو، ان يطيله بضع ساعات". فقالت تريزة بشجاعتها المألوفة : " وأنا لا اود ان اتألم آلاما اقصر". وفي نحو الساعة السابعة والربع، نظرت تريزة الى الصليب بحنان وقالت: "احبه...يا ...الهي...اني احبك".هذه كانت كلماتها الاخيرة. ثم أحنت راسها الى الجهة اليمنى وظنت الاخوات انها لفظت انفاسها الأخيرة. الا انها نهضت بغتة وكأن صوتا سريا يناديها، وفتحت عينيها وشخصت بهما الى ما فوق صورة العذراء: والسعادة تملأهما. واستمرت النظرة نحو دقيقة، ثم طارت نفسها والتحقت بالحبيب. وتم فيها ما قاله القديس يوحنا الصليبي عن النفوس التي تذوب في الحب الإلهي:"انهن يمتن في فرح عجيب، وهجمات عذبة يشنها عليهن الحب، على مثال طائر ينشد انشادا عذبا عندما يوشك ان يمت. وهذا ما جعل داود يقول: ان موت الابرار ثمين في عيني الرب. عندئذ تتدفق من النفس انهار الحب، وتسير فتتلاشى في محيط الحب الإلهي".
.
نقلاً عن موقع "الحكمة": http://www.geocities.com/sofia_hkma/saints/theresa.html
No comments:
Post a Comment